فصل: تفسير الآية رقم (61):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (61):

{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)}
يقول تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} أي: وضعت عليهم وألزموا بها شَرْعًا وقدرًا، أي: لا يزالون مستذلين، من وجدهم استذلهم وأهانهم، وضرب عليهم الصغار، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون.
قال الضحاك عن ابن عباس في قوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} قال: هم أصحاب النيالات يعني أصحاب الجزية.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الحسن وقتادة، في قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ} قال: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون، وقال الضحاك: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} قال: الذل.
وقال الحسن: أذلهم الله فلا منعة لهم، وجعلهم الله تحت أقدام المسلمين. ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية.
وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي: المسكنة الفاقة.
وقال عطية العوفي: الخراج.
وقال الضحاك: الجزية.
وقوله تعالى: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} قال الضحاك: استحقوا الغضب من الله، وقال الربيع بن أنس: فحدَثَ عليهم غضب من الله.
وقال سعيد بن جبير: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} يقول: استوجبوا سخطًا، وقال ابن جرير: يعني بقوله: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} انصرفوا ورجعوا، ولا يقال: باؤوا إلا موصولا إما بخير وإما بشر، يقال منه: باء فلان بذنبه يبوء به بَوْءًا وبواء. ومنه قوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة: 29] يعني: تنصرف متحملهما وترجع بهما، قد صارا عليك دوني. فمعنى الكلام إذًا: فرجعوا منصرفين متحملين غضب الله، قد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم من الله سخط.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} يقول تعالى:
هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة، وإحلال الغضب بهم بسبب استكبارهم عن اتباع الحق، وكفرهم بآيات الله، وإهانتهم حملة الشرع وهم الأنبياء وأتباعهم، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم، فلا كبْر أعظم من هذا، أنهم كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياء الله بغير الحق؛ ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الكبر بَطَر الحق، وغَمْط الناس».
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، عن ابن عون، عن عمرو بن سعيد، عن حميد بن عبد الرحمن، قال: قال ابن مسعود: كنت لا أحجب عن النَّجْوى، ولا عن كذا ولا عن كذا قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي، فأدركته من آخر حديثه، وهو يقول: يا رسول الله، قد قسم لي من الجمال ما ترى، فما أحب أن أحدًا من الناس فَضَلني بشراكين فما فوقهما أفليس ذلك هو البغي؟ فقال: «لا ليس ذلك من البغي، ولكن البغي مَنْ بطر- أو قال: سفه الحق- وغَمط الناس». يعني: رد الحق وانتقاص الناس، والازدراء بهم والتعاظم عليهم. ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات الله وقتل أنبيائهم، أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد، وكساهم ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة جزاء وفاقًا.
قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله بن مسعود، قال: كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي، ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبان، حدثنا عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله- يعني ابن مسعود- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل قتله نبي، أو قتل نبيًا، وإمام ضلالة وممثل من الممثلين».
وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به، أنهم كانوا يعصون ويعتدون، فالعصيان فعل المناهي، والاعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه أو المأمور به. والله أعلم.

.تفسير الآية رقم (62):

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}
لما بين الله تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره، وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم، وما أحلّ بهم من النكال، نبه تعالى على أن مَنْ أحسن من الأمم السالفة وأطاع، فإن له جزاء الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة؛ كُلّ من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا هُمْ يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه، كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30].
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر العَدني، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، قال: قال سلمان: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم، فذكرتُ من صلاتهم وعبادتهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} إلى آخر الآية.
وقال السدي: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا} الآية: نزلت في أصحاب سلمان الفارسي، بينا هو يحدث النبي صلى الله عليه وسلم إذْ ذكر أصحابه، فأخبره خبرهم، فقال: كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك، ويشهدون أنك ستبعث نبيًا، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم، قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: «يا سلمان، هم من أهل النار». فاشتد ذلك على سلمان، فأنزل الله هذه الآية، فكان إيمان اليهود: أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى، عليه السلام؛ حتى جاء عيسى. فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى، فلم يدعها ولم يتبع عيسى، كان هالكًا. وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنًا مقبولا منه حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لم يتبعْ محمدًا صلى الله عليه وسلم منهم ويَدَعْ ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل- كان هالكا.
وقال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا.
قلت: وهذا لا ينافي ما روى عَليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية فأنزل الله بعد ذلك: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا إلا ما كان موافقًا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه الله بما بعثه به، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة، فاليهود أتباع موسى، عليه السلام، الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم.
واليهود من الهوادة وهي المودة أو التهود وهي التوبة؛ كقول موسى، عليه السلام: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] أي: تبنا، فكأنهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض.
وقيل: لنسبتهم إلى يهوذا أكبر أولاد يعقوب عليه السلام، وقال أبو عمرو بن العلاء: لأنهم يتهودون، أي: يتحركون عند قراءة التوراة.
فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى، وسموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم، وقد يقال لهم: أنصار أيضًا، كما قال عيسى، عليه السلام: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران: 52] وقيل: إنهم إنما سُمّوا بذلك من أجل أنهم نزلوا أرضًا يقال لها ناصرة، قاله قتادة وابن جُرَيج، وروي عن ابن عباس أيضًا، والله أعلم.
والنصارى: جمع نصران كنشاوى جمع نشوان، وسكارى جمع سكران، ويقال للمرأة: نصرانة، قال الشاعر:
نصرانة لم تَحَنَّفِ

فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتمًا للنبيين، ورسولا إلى بني آدم على الإطلاق، وجب عليهم تصديقُه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانكفاف عما عنه زجر. وهؤلاء هم المؤمنون حقا. وسميت أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم وشدة إيقانهم، ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الآتية. وأما الصابئون فقد اختلف فيهم؛ فقال سفيان الثوري، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، قال: الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى، ليس لهم دين.
وكذا رواه ابن أبي نجيح، عنه وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك.
وقال أبو العالية والربيع بن أنس، والسدي، وأبو الشعثاء جابر بن زيد، والضحاك وإسحاق بن راهويه الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور.
ولهذا قال أبو حنيفة وإسحاق: لا بأس بذبائحهم ومناكحتهم.
وقال هشيم عن مطرف: كنا عند الحكم بن عتيبة فحدثه رجل من أهل البصرة عن الحسن أنه كان يقول في الصابئين: إنهم كالمجوس، فقال الحكم: ألم أخبركم بذلك.
وقال عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن عبد الكريم: سمعت الحسن ذكر الصابئين، فقال: هم قوم يعبدون الملائكة.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه، عن الحسن قال: أخبر زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة ويصلون الخمس. قال: فأراد أن يضع عنهم الجزية. قال: فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة.
وقال أبو جعفر الرازي: بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة، ويقرؤون الزبور، ويصلون إلى القبلة.
وكذا قال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: الصابئون قوم مما يلي العراق، وهم بكوثى، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم، ويصومون من كل سنة ثلاثين يوما ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات.
وسئل وهب بن منبه عن الصابئين، فقال: الذي يعرف الله وحده، وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفرًا.
وقال عبد الله بن وهب: قال عبد الرحمن بن زيد: الصابئون أهل دين من الأديان، كانوا بجزيرة الموصل يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول: لا إله إلا الله، قال: ولم يؤمنوا برسول، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: هؤلاء الصابئون، يشبهونهم بهم، يعني في قول: لا إله إلا الله.
وقال الخليل هم قوم يشبه دينهم دين النصارى، إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب، يزعمون أنهم على دين نوح، عليه السلام. وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن وابن أبي نجيح: أنهم قوم تركب دينهم بين اليهود والمجوس، ولا تؤكل ذبائحهم، قال ابن عباس: ولا تنكح نساؤهم. قال القرطبي: والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون ويعتقدون تأثير النجوم، وأنهم فاعلة؛ ولهذا أفتى أبو سعيد الإصطخري بكفرهم للقادر بالله حين سأله عنهم، واختار فخر الدين الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب؛ بمعنى أن الله جعلها قبلة للعبادة والدعاء، أو بمعنى أن الله فوض تدبير أمر هذا العالم إليها، قال: وهذا القول هو المنسوب إلى الكشرانيين الذين جاءهم إبراهيم الخليل، عليه السلام، رادًا عليهم ومبطلا لقولهم.
وأظهر الأقوال، والله أعلم، قول مجاهد ومتابعيه، ووهب بن منبه: أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين، وإنما هم قوم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه؛ ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابئي، أي: أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذاك.
وقال بعض العلماء: الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي، والله أعلم.

.تفسير الآيات (63- 64):

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)}
يقول تعالى مذكرًا بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده لا شريك له واتباع رسله، وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق رفع الجبل على رؤوسهم ليقروا بما عوهدوا عليه، ويأخذوه بقوة وحزم وهمة وامتثال كما قال تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171] الطور هو الجبل، كما فسره بآية الأعراف، ونص على ذلك ابن عباس، ومجاهد، وعطاء وعكرمة والحسن والضحاك والربيع بن أنس، وغير واحد، وهذا ظاهر.
وفي رواية عن ابن عباس: الطور ما أنبت من الجبال، وما لم ينبت فليس بطور.
وفي حديث الفتون: عن ابن عباس: أنهم لما امتنعوا عن الطاعة رفع عليهم الجبل ليسمعوا فسجدوا.
وقال السدي: فلما أبوا أن يسجدوا أمر الله الجبل أن يقع عليهم، فنظروا إليه وقد غشيهم، فسقطوا سجدًا فسجدوا على شق، ونظروا بالشق الآخر، فرحمهم الله فكشفه عنهم، فقالوا والله ما سجدة أحب إلى الله من سجدة كشف بها العذاب عنهم، فهم يسجدون كذلك، وذلك قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ}.
وقال الحسن في قوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} يعني التوراة.
وقال أبو العالية، والربيع بن أنس: {بِقُوَّةٍ} أي بطاعة.
وقال مجاهد: بقوة: بعمل بما فيه.
وقال قتادة {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} القوة: الجد وإلا قذفته عليكم.
قال: فأقروا بذلك: أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة. ومعنى قوله: وإلا قذفته عليكم، أي أسقطه عليكم، يعني الجبل.
وقال أبو العالية والربيع: {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} يقول: اقرؤوا ما في التوراة واعملوا به.
وقوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} يقول تعالى: ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم توليتم عنه وانثنيتم ونقضتموه {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أي: توبته عليكم وإرساله النبيين والمرسلين إليكم {لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والآخرة.